الكتاب: المفترون ... خطاب التطرف العلماني في الميزان।
المؤلف : فهمي هويدي।
الناشر : دار الشروق بالقاهرة.
الأستاذ فهي هويدي صحفي مخضرم وكاتب إسلامي قدير عرفه القراء كاتباً أسبوعياً وشهرياً في كبرى الصحف والمجلات العربية، وهو صاحب عاطفة دينية صادقة لا تخرجه عن المنهج العلمي الهاديْ في النقاش والحوار، فهو من رموز التيار الديني الفكري المعتدل الذي يحمل هم الوطن والأمة.
وقد اشتهر هويدي بنقده للتطرف والغلو والعنف باسم الدين، ولكنه تميز عن غيره بأنه لم يكتف بذلك بل استمر في منهجه في نقد سائر صور التطرف ومنه التطرف العلماني الليبرالي الذي استغل أصحابه أحداث العنف التي مارسها بعض غلاة المتدينين وبدؤوا يصطادون في الماء العكر لينتقلوا من نقد التطرف الديني إلى نقد التدين بل إلى نقد الإسلام نفسه بكل وقاحة وبجاحة، حتى أصبح لدينا خلال العقدين الأخيرين في الإعلام العربي –وللأسف– لوبي علماني عربي متطرف وميليشيات من المثقفين مهمتهم محاولة قطع الطريق على تقدم المسيرة الإسلامية بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة وكونت هذه الكتائب الظالمة معسكر "الضد" الرافض لكل ما هو إسلامي، وهؤلاء الكتاب وأدعياء الثقافة ما هم إلا زوائد سرطانية للصهيونية والاحتلال الغربي العسكري والفكري الجاثم على كثير من بلاد المسلمين.
والكتاب عبارة عن مقالات كتبها الأستاذ فهمي هويدي في مناسبات متفرقة في مختلف الصحف العربية في نقد الكتابات العلمانية المتطرفة عن الحالة الإسلامية، حتى جعلت هذه الأقلام المسمومة من التيار الإسلامي بل من الدين نفسه فزّاعة لإخافة الحكومات العربية والعالم الغربي، وصار تحريض الأنظمة على هذا التيار مادة إعلامية يومية في الصحافة العربية المختطفة في غالبها من التيار الليبرالي المتطرف.
ويؤكد المؤلف في المقدمة على أهمية التفرقة بين النقد الموضوعي للحالة الإسلامية الذي ينبغي أن يرحب به وأن تتسع الصدور له، وبين الافتراء الذي هو بمثابة تطاول على ثوابت الأمة والمقومات الأساسية للمجتمع؛ والفرق بين الاثنين هو بالضبط الفرق بين الحوار والسب الأول موقف إيجابي أياً كان اتجاهه والآخر مسلك سلبي بكل المقاييس.
وفي بداية الكتاب إعادة للتأكيد على أننا لا ندافع عن حماقات أو إساءات يمارسها بعض العاملين تحت راية الإسلام، بل ندينها قبل غيرنا من موقع الالتزام بتعاليم الإسلام بهدف ترشيد المسيرة وتصحيحها، وليس بغرض اغتيال الأمل الإسلامي، الذي فيه خلاص الأمة في الدنيا والآخرة.
ويوضح هويدي أن مصطلح "الإسلاميين" معروف منذ القرن الرابع الهجري أطلقه الأشعري المعتزلي على كتابه الشهير "مقالات الإسلاميين" وموضوعه عرض لأفكار الفرق المختلفة التي شهدها زمانه، ثم صارت بعد ذلك تطلق على كل مسلم تجاوز حدود تدينه الشخصي، وشارك في العمل العام؛ ولم يقل أحد إنها تعني أي تفضيل لأحد على آخر في التدين، ولكن التفاضل منصب على الهمة وليس بأي حال على الملة.
كما نبه المؤلف إلى ضرورة الحذر من التورط في تجريح التدين والتهوين من شأنه، في خضم الحملة على التطرف، ويكرر في كتابه هذا –وفي سائر كتبه– إلى أهمية ترشيد التدين بدلاً من تجفيف منابعه فيقول:
إن الحصانة الحقيقية ضد الفكر المتطرف أو المنحرف تتوفر بترشيد الثقافة الدينية، وليس باستبعادها أو إضعافها. ومراراً قلنا إن المعركة ضد التطرف تحسم ليس فقط بالاستغراق في ملاحقة التطرف، ولكن أيضاً بإذكاء الاعتدال ودفع مسيرته وتعزيز مواقعه.
ومخطئ ومغالط من يظن أن التدين لا ينتج إلا إفرازات سلبية تلحق الضرر بالمجتمع وبتطلعه إلى التقدم. وفي ذات الوقت فإننا لا نستطيع أن نقطع بأن مثل تلك السلبيات مقطوعة الصلة بالتدين. وغاية ما نقوله في هذا الصدد إن التدين طاقة هائلة، يمكن أن تستخدم في إطلاق طاقة التقدم والنهضة، ويمكن أن تستخدم في إثارة الناس وإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في المجتمعات. تماماً كالذرة، التي قد توظف في التدمير كما قد توظف في العلاج والإحياء. ومن ثم فإنها قد تكون سبيلاً للموت تارة وللحياة تارة أخرى.وعلى المجتمع وأولي الأمر فيه أن يقرروا على أي وجه، يريدون توظيف تلك الطاقة الجبارة؟
التدين ينطبق عليه الكلام ذاته، فهو قد يوظف ضد المجتمع، إذا ما فشل المجتمع في الاستفادة من طاقته الضخمة. وعجز عن أن يستثمر تلك الطاقة في إطلاق شرارة التقدم والإبداع.
لقد خرجت محاكم التفتيش من عباءة المسيحية، التي تعايشت لاحقاً مع الديمقراطية. والإسلام صنع النهضة، وفي وجوده حدث الانهيار والانحطاط. وفي كل من تلك الحالات فإن المشكلة لم تكن في النص أو القيمة الدينية، ولكنها كانت دائماً في الكيفية التي وظفت بها القيمة، إيجاباً كانت أو سلباً.
ويبدي الكاتب أسفه من أن الأغلبية التي تعارض التطرف حقاً تعاني منه، ويبين أنه كان من الذين يعتبرون الإسلاميين مصابين بحساسية ملحوظة تجاه النقد، وإن صدورهم لا تتسع للحوار بالقدر الذي يعبر عن الالتزام الإسلامي الصحيح، لكنه أعذر الغاضبين والمستفزين منهم عندما تجمعت لديه كمية ضخمة من كتابات ذلك الفريق من العلمانيين الذين يعتبرهم تنظيماً متطرفاً لا يختلف عن غلوه عن الآخرين؛ إلا في الاتجاه وزاوية الرؤية؛ وبمعنى أنهم تجاوزوا حد الاعتدال في رفض الشريعة والظاهرة الإسلامية في مجموعها، وما عرضه في كتبه ليست سوى نماذج تعرض موقفهم وتكشف أوراقهم.
ومن وجهة نظر الأستاذ فهمي هويدي فإنه لابد من تجنب الوقوع في محظور التناقض الإسلامي العلماني، وإن التناقض الحقيقي هو بين القوى الوطنية وغير الوطنية وإن من شأن الاستسلام لمنطق التناقض الأول أن يقسم الصف الوطني وينهكه، ومن ثّم يصرفه عن المخاطر التي تتهدد الجميع...
ثم يعيد التنبيه على أن حديثه عن أسباب التطرف الديني الاجتماعية والفكرية والاقتصادية وغيرها هو تفسير لا تبرير.
والقسم الرابع هو آخر أجزاء الكتاب وأجودها حيث يتحدث في أوله عن الندوة التي شارك فيها المؤلف في مدينة لندن عام 1994م (ألف وتسعمائة وأربعة وتسعين للميلاد) ودعا إليها مركز أبحاث الديمقراطية بجامعة ويستمنستر بالتعاون مع منظمة "ليبرتي" المختصة بشؤون الحريات في العالم الإسلامي وعنوانها: انهيار العلمانية والتحدي الإسلامي للغرب، غير أن أوراقها وحواراتها انصبّت حول مراجعة ونقد المشروع العلماني على المستويين الفلسفي والتطبيقي، ثم موقف الإسلام من الفكرة العلمانية، وجميع المشاركين في الندوة من كبار الباحثين الغربيين والعرب كانوا من دعاة إعادة النظر في إفرازات علمنة المجتمع التي أصبحت تؤرّق الضمير الغربي، فحين عزل الدين عن الحياة واعتبر شأناً أخروياً مقطوع الصلة بالواقع؛ عانت المجتمعات من تفسخات وأمراض أصبحت تهدد تماسكها واستقرارها وأصبح التشرد والإيدز وإدمان المخدرات واللقطاء والتحلل الأخلاقي من سمات المجتمعات الغربية المعاصرة، ويوضح الكاتب أن حضور ندوة لندن كانت صدمة له فما بدا لنا أنه مستقر ومحسوم، تبين أنه محل نقد ومراجعة، فضلاً عن أن الذي يقاتل دونه الآن نفر من المثقفين العرب يفقد بريقه وجاذبيته تدريجياً في موطنه، حتى يكاد يتحول إلى "صرعة" عبرت عن مرحلة تاريخية معينة، ولم تعد تناسب الطور الذي أعقبها.
غير إن تجربة العلمانية العربية ظلت على الدوام نقطة سوداء في السجل العلماني، ليس فقط من زاوية موقفها من الدين، وإنما أيضاً من زاوية موقفها من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
أهم إسهام قدم في هذا الصدد، كان ورقة تونسية للأستاذ راشد الغنوشي وخلاصتها أن العلمانية في الغرب حررت العقل من سلطة الدين، وحرت الدين والمجتمع من سلطة الكنيسة، بينما هي في التجربة العربية رهنت الدين والمجتمع والعقل لكنيسة جديدة هي دولة النخبة العلمانية أو ما يمكن تسميته بدولة "الأوتوقراطية العلمانية". من ثم، ففيما بدت العلمانية الغربية لصالح المجتمع وفي خدمته، فإنها في التجربة العربية ظلت على الدوام ضد المجتمع وضد طموح الجماهير وأحلامها.
وهذه التجربة دليل قوي على أن التلازم بين العلمانية والديمقراطية ليس ضرورياً.
وفي مداخلته قال أحد علماء الرياضيات إن العقل النهائي لا يستطيع أن يحل مشاكله بالكامل، وكل الفرضيات التي تتصور أنها نهائية غير كافية. فكلما تصور العقل الإنسان فرضية نهائية، انفتح الباب لفرضيات جديدة لا نهائية، وثبت أن العقل الأول كان ناقصاً. لذلك فإن اللانهائي، الذي هو الغيب في هذه الحالة، يظل ضرورة رياضية وعلمية، فضلاً عن كونه ضرورة إيمانية.
أما البروفيسور لويس كنتوري الأستاذ بجامعة جورج تاون وأحد الخبراء الأمريكيين في شؤون الشرق الأوسط فقد جاء في ورقته:
إن الليبراليين من أكثر الناس ضيقاً بالنقد، لاعتقادهم أنهم يملكون الحقيقة والمفتاح السحري للتقدم بعد الذي حققه الغرب من إنجازات على ذلك الصعيد. وقد آن الأوان لفك الارتباط بين المصطلحات الثلاثة: الليبرالية والعلمانية والتقدم.
ويؤكد المؤلف أن التطرف العلماني فكراً وسلوكاً هو هدية ثمينة لدعاة التطرف، الذين لابد أن يتلقفوه بترحاب شديد لكي يؤكدوا به صحة أدعائهم بجاهلية المجتمع أو انحرافه عن الدين.
ويدور الحديث في كثير من صفحات الكتاب على رد شبهات أباطيل العلمانيين العرب حول تطبيق الشريعة الإسلامية الذي يدعو إليه التيار الإسلامي – حيث إنه من المعلوم أن معظم الدول الإسلامية –وللأسف– لا تطبق الشريعة وذلك من مخلفات الاستعمار وآثاره.
ولا غرو فالأستاذ/ فهمي هويدي حامل المشعل في مواجهة هؤلاء العلمانيين الذين يجهلون أو يتجاهلون أن التجارب الإنسانية لا تتكرر ولا تستنسخ وأن لكل بلد وأمة خصوصيتها، وقد بذل جهوداً مشكورة في نقض مشروعهم المستورد، وتصوير معاركهم في محاولة تجريح الحلم الإسلامي واغتيال مشروعه مرة بضرب الشريعة ومرة بالحط من التجربة الإسلامية عبر تاريخها وثالثة بتسفيه الرموز الإسلامية والانتقاص من قدرها.
(وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق