الاثنين، 15 فبراير 2016

‏الشريف حاتم العوني‏ في : حوار مع مفت جاهل


وصلتني رسالة تحرم النكات (الطرائف) التخييلية ، بحجة أنها كذب ، ويستدل هذا المفتي الجاهل بقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم، ويل له ويل له)) .
فأجبت المرسل : هذا ثقل دم ، وضعف فهم ، وقلة علم !!
والحقيقة أن هؤلاء القوم فعلا لن ينتهوا عن التضييق على الناس حتى يخرجوهم من دينهم !! بمنافاتهم للفطرة السوية ، وبالتشديد والغلو ، وبالتبغيض والتكريه في الدين .
فالنكت التخييلية ليست من الكذب في شيء ؛ لأن الكذب هو ما قصدت به إيهام سامعك أنه حق ، أما ما لا تقصد فيه ذلك ، ولا يفهم أحد من العقلاء منك أنه حقيقة = فليس من الكذب في شيء ، وهو كضرب الأمثال غير الواقعة للعظة والعبرة .
ولو كان عند هؤلاء فهم ، لعلموا أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم، ويل له ويل له)) ، لا يمكن أن يكون هذا الإثم والوعيد الشديد على أمر لا مفسدة فيه ، بل فيه مصلحة (كما سيأتي) ، لأنه لا يترتب عليه شيء من مفاسد الكذب ، لكون العقلاء كلهم يعلمون أنه لا علاقة له بحكاية الواقع ، وأنه مجرد تخييل فقط .
مع ذلك فقد جعل هؤلاء النكتة البريئة كبيرة من كبائر الذنوب (( ويل ثم ويل ثم ويل !!!)) .
ألا ويل لكم ! يا من يحرم ما لم يحرمه الله تعالى !!
ثم إن الإضحاك من إدخال السرور على المسلم ، وإدخال السرور على قلب الإنسان إحسان إليه ، ومن أعظم الإحسان ، ورب ابتسامة رسمتها في وجه إنسان فاقت في أجرها صدقة بالكثير من المال .
فإدخال السرور على المسلم من أعظم الطاعات ، والضحك من السرور .
وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بمن استأذنه في الجهاد وقد ترك أبويه يبكيان ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (( ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)) . وبوب له ابن حبان : (( ذكر بيان أن إدخال السرور على والديه يقوم مقام جهاد النفل )) .
وصحح الألباني حديثا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : (( أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك سرورا أو تقضي عنه دينا أو تطعمه خبزا )) .
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمزح ، ويقول ما يظنه الجهلة كذبا ، وهو ليس بكذب ؛ لأن الكذب ما توهم السامعون صدقه (كما سبق) .
كقصته (صلى الله عليه وسلم) مع زاهر بن حرام (رضي الله عنه) ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أتاه وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه ، وزاهر لا يبصره، فقال: أرسلني ! من هذا؟! فالتفت إليه، فلما عرف أنه النبي ﷺ جعل يلزق ظهره بصدره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «من يشتري هذا العبد»؟ فقال زاهر: تجدني يا رسول الله كاسدا، قال: «بل أنت عند الله غال» .
فقوله (صلى الله عليه وسلم) : «من يشتري هذا العبد» ظاهره عند الجهال أنه كذب ، لأن زاهرا حر وليس بعبد يُباع ويشترى ، وحاشاه (صلى الله عليه وسلم) من الكذب جادا ومازحا ؛ ولكن لما كان الناس يعرفون مقصده (صلى الله عليه وسلم) ، لم يكن هذا كذبا .
فها هو (صلى الله عليه وسلم) يمزح ويُضحك بما يظنه الجهلة من الكذب .
وثبت أن بعض الصحابة (رضي الله عنهم) استغربوا من مزاحه صلى الله عليه وسلم ودعابته معهم ، فسألوه على وجه التعجب : يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: " إني لا أقول إلا حقا ". فالنبي (صلى الله عليه وسلم) كان يمازح أصحابه ، يا أيها المتزمتون !
وقصصه في المزاح الثابتة عديدة :
١- كقوله صلى الله عليه وسلم لمن جاء يستأذنه في الدخول : ((ادخل كلك)) ، وكأنه يمكن أن يدخل بعضه !!
وكقوله صلى الله عليه وسلم لمن جاء يطلب أن يؤمر له براحلة يركبها : (( إني حاملك على ولد ناقة )) ، فظن الرجل أنه سيحمله على ولد صغير من الإبل ، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : (( وهل تلد الإبل إلا النوق)) .
وعلى فقه من لا فقه عندهم ستكون هذه سخرية واستهزاء لا يجوز !!
وقد بوبت مشاهير كتب السنة أبوابا في المزاح ، وبهذا العنوان ونحوه ((باب في المزاح)) ، وذكروا فيها أحاديث تدل على مشروعية المزاح .
كالبخاري في الأدب المفرد ، وأبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي وغيرهم ، كلهم يؤكدون بتبويبهم وبإيرادهم مزاحه (صلى الله عليه وسلم) أن المزاح سنة مستحبة ، ما لم يكن بإثم !
وكان الصحابة يضحكون ويتمازحون ، وربما تراموا بالبطيخ مزاحا !!
فقد صح عن التابعي الثقة الفقيه بكر بن عبد الله المزني أنه قال: ((كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال)).
ولو كان قومنا الأجلاف هم من شاهدوا الصحابة يترامون بالبطيخ لحرموا هذا الفعل من ثلاثين وجها !!
فهو عندهم : كفران للنعمة ، وهو عندهم تبذير ، وهو عندهم مجون وخلاعة ، لا تليق بأهل الفضل والصلاح ... !! إلى تمام الثلاثين وجها من السماجة وثقل الدم !!
وصح عن التابعي الجليل الفقيه محمد بن سيرين (ت١١٠هـ) ، وسئل عن الصحابة : هل كانوا يتمازحون ؟! فقال : ((ما كانوا إلا كالناس ، كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر ، ويقول :
يحب الخمر من كيس الندامى ••• ويكره أن تفارقه الفلوسُ)) .
ومزاحهم (رضي الله عنهم ) يملأ جزءا !!
وقد صنف أحد العلماء كتابا باسم ( المراح في المزاح) ، وهو نجم الدين الغزي . بين فيه استحباب المزاح ، ما لم يكن إثما ، وما لم يؤد إلى إثم وباطل .
ولكن يبدو أن المزايدة على الورع بدأت منذ القدم ، والانحراف عن السماحة بدأ منذ جيل التابعين !! وما زال يزداد ، حتى إذا بلغ القوم ، زادوا فيه هذا الحد المتناهي في الجلافة والغلظة والبرودة القطبية في الورع السمج !! الذي ليس من الورع في شيء !!
والذي يدل على قدم الانحراف : أن أحد فقهاء التابعين وثقاتهم وهو أبو قلابة الجرمي (ت١٠٤هـ) روى حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله للحادي (المنشد) : ((يا أنجشة ، سوقا بالقوارير )) ، أي : ارفق بالنساء ، فشبه النساء بالزجاج لرقتهن وصفاء طبعهن ، وطلب بالرفق بهن لشدة تأثرهن بالصوت الرقيق (كما ذهب إلى ذلك أكثر العلماء) . فلما روى أبو قلابة هذا الحديث ، ووازن هذا اللطف النبوي بما بدأ في الظهور في زمنه من التزمت ، قال : (( فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه، قوله: (سوقك بالقوارير)) !!
نعم والله ! لو أدرك هؤلاء الأجلاف الجهلة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأنكروا عليه شطرا كبيرا من سماحته ولطفه بأبي هو وأمي !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق